أهرب منذ الصباح من مواجهة هذه الصفحة البيضاء واستعادة ذكريات هذا اليوم الذي سيظل موشوماً في ذاكرتي للأبد..
لم أكن أريد أن أتذكر..ولكني عاجزة عن النسيان أيضاً
في هذا اليوم العام الماضي.. اعتقلت شقيقتي د.ندى ضيف..ومن بين كل التجارب السيئة في حياتي.. كانت هذه هي التجربة الأقسى ولا أستطيع أن أزعم أني الإنسانة ذاتها بعد تلك التجربة..
****
(1)
بعد دخول قوات درع الجزيرة لبلدي، ونشر المدرعات والدبابات لتقويض الحركة المطلبية المطالبة بالعدالة والديمقراطية.. بدأت السلطة في تصفية حساباتها مع كل خصومها.. كما وبدأ موالوها " الذين يفوقونها في العدائية أحياناً " في إطلاق حملات لتصفية من اعتبرتهم " أعداء الوطن" ! فالوطن ، في قاموس هؤلاء، هو العائلة الحاكمة.. وبما أننا انتفضنا على ظلمهم وطالبنا بتقويض سلطتهم " وقطع امتيازاتهم كموالين" فنحن بالمفاد " خونه للوطن/الشيوخ" ونستحق الشنق والسحل والإعتقال والتشهير !!
في قائمة الـ18 التي وزعت " للمطلوب إعدامهم" كان أسمي هو الاسم السادس (!!!) والوجه الإعلامي الوحيد بين حقوقيين وسياسيين عتاة - ولا غرو- فصوتي عالً وقلمي حاد وطرحي هو الأشرس بين الزملاء في فضح الانتهاكات، وكنتيجة أصبحت من أهم المستهدفين فتعرض بيتي للاعتداء مرتين من بلطجية وشبيحة الحكومة، وأطلقوا حملات مارقة لاغتيال سمعتي وكانت مكالمات التهديد بالقتل والاختطاف هي زادي اليومي.. لذا توقعت اعتقالي في أية لحظة سيما بعد أن أشاعت السلطة نبأ اعتقالي آنذاك لسبب؛ لم أفهمه لليوم..
****
كان للأحداث وقع ثقيل على نفسي.. وصدمتني بالسلطة لم تكن توصف..على كل عللهم وسوءاتهم لم أتوقع أنهم قادرون على ما فعلوه.. لقد سحقوا الناس.. قتلوهم بدم بارد.. هتكوا كل المحرمات وتجرؤوا حتى على المساجد ودور العبادة، وأنشئوا مليشيات أهليه لمساعدتهم: رسالة واحدة خطية كانت كافية لتمنحك الداخلية سلاحاً نارياً لو كنت موالياً.. لقد سلحوا جزءا واحداً من الشعب وأشاحوا بوجههم بعيدا عن تكسيرهم للمحال واعتداءاتهم على الناس.. أقاموا نقاط تفتيش مهمتها أهانه الناس وإذلالهم.. تضرب الأب أمام أعين أبناءه.. تكسر هيبة الزوج بركله بوحشية أمام زوجته.. تهين النساء بأسئلة وعبارات جنسية نابية..
لقد فقدت السلطة رشدها وقررت السلطة أن تقطع شعرة معاوية التي كانت تربطها بنا..
(2)
انتقلت وقتها لأمواج.. لسكن محاذً لمنزل شقيقتي ندى لأخفف من قلق أهلي وصحبي على سلامتي.. كنت كل ليلة أجهز ملابساً قبل النوم تأهباً لاعتقالي.. فبعد أن اعتقلوا رموزاً وناشطين وساقوهم بملابس النوم قررت أن أنام أولاً بملابس " تصلح" للاعتقال.. ثم قررت تجهيز ملابس بحيث أستغرق أقل من دقيقة لأكون جاهزة..
في الثالثة والنصف من فجر 19-مارس الماضي.. سمعت طرقاً متواصلاً ونظرت في العين السحرية للباب فإذ به محمد - زوج شقيقتي- فأدركت أنها ساعة الصفر وقلت له بهدوء " دقيقة".. وفي أقل من دقيقة فتحت الباب.. كنت جاهزة.. مستعدة – تماماً- لأن يقول لي أن العسكر متجمهرين عند بيته – أقرب عنوان معروف لي- لاعتقالي.. كنت جاهزة لمواجهة الملثمين الغلاظ الذين سمعنا عن أهوالهم في الأيام الماضية.. جاهزة لمواجهة محقق مسموم الفكر يسألني عن علاقتي بإيران وطاجكستان وروسيا واليابان ليجد مبرراً كافياً لاتهامي بالعمالة رغم معرفتي – ومعرفته- أن الأمر له علاقة بفساد العائلة الحاكمة واستبدادها ولا شيء آخر.. كنت جاهزة لخنقي بالماء وضربي بـ"أهواز" كما يفعلون في سجوننا.. كنت جاهزة لكل شيء.. ولأي شيء.. إلا الكلمات الثلاث التي نطق بهم محمد
" لقد أخذوا ندى "
(3)
فجأة.. تحولت قوتي لوّهن.. وشجاعتي لانكسار" كيف.. ولماذا.. هل هناك خطأ ما"
وجدتني أمام أسئلة كثيرة.. وإجابات قليلة..
كانت مجموعة من 5 مركبات شغب قد حاصرت منزل والدي في الزنج في الثانية بعد منتصف الليل.. وأقتحم 16-20 ملثماً منزل والدي.. ومن سوء الطالع أن أبن أختي الكبرى كان قد بات ليلتها في منزلنا وعاش الرعب الذي عايشته عائلتي " وظل معتقداً حتى اليوم التالي أنهم جاؤوا طلباً لي".. لقد شهروا رشاشاتهم في وجه أمي وأبي.. هددوا أسرتي بتفجير رأس أحد أخوتي على مرأى منهم " وكان جرح صورة رأس أحمد فرحان مازال طرياً في مقل أعيننا " هددوا أخوتي باقتياد أبي الستيني وتعذيبه ولولا أنهم عرفوا أن أخي يعمل في القضاء لكانوا فعلوا ما هو أشد وأنكي.. لقد اجبروا أخي على الذهاب معهم لمنزل ندى فخرج نصفهم معه فيما أتخذ الباقون من أهلي رهائن حتى " الانتهاء من المهمة" !
من كان ليتخيل !
أهلي رهائن.. وملثمون يعيثون بمنزلي ويستحلون ردهاته، ويشهرون رشاشاتهم في جباه أخوتي !
لم أكن لأرى في أسوء كوابيسي أن تتعرض أسرة بحرينية لشيء كهذا أبداً لا يشبه إلا ما يتعرض له الفلسطينيون على يد الصهاينة !
(4)
عنوان شقيقتي كان معروفاً.. لماذا ذهبوا لمنزل والدي وهتكوا حرمته إذن.. ليثيروا الرعب بينهم أو ليوصلوا رسالة من نوع ما ! ولماذا لم يتصلوا بها لتذهب لهم بنفسها إن كانوا يريدون التحقيق معها ! وماذا فعلت ندى – أصلاً- لتستحق الاعتقال..!! ليست في أي تنظيم وليس لها نشاط سياسي ولا تعمل حتى في المستشفى الحكومي.. لقد تطوعت – كطبيبة – لمعالجة المتظاهرين.. فلماذا تعتقل؟
أفكار غير مكتملة..يقطع كل منها الآخر..يُلغيه أو يقفز عليه قبل أن يكتمل.. تزاحمت في عقلي الأفكار في مسافة الدقائق الثلاث التي وصلت فيهم لمنزل ندى.. الكل مصدوم وفي الوقت ذاته يحاول أن يهدئ الآخر.. اتصلت والدتي بي وخاطبتني برباطة جأش تستر قهراً مكتوماً
" لقد تنمروا واستقوا علينا ولكنهم ليسوا أقوى من الله.. لنا رب يا ابنتي فلا تجزعي"
كانت تتصنع التماسك ولكني كنت أتذوق طعم الدموع في كلماتها.. والدتي تعرفني، أوصتهم بالترفق عند إبلاغي بالخبر لأنها تعرفني، عرفت أني سأتفتت لمليون قطعة صغيرة.. غضبا وحزناً..
(5)
حاولت مواساة أخوتي الذين بدؤوا يتقاطرون على المنزل ومحمد، زوج أختي الذي بدأ وكأن روحه قد انفصمت عن جسده.. سرت فجأة برودة لا توصف بجسدي، شعرت أن أوصالي تتجمد رغم دفء الجو فسارعت لخزانة ندى لأتدثر بمعطف أو لأهرب من عيونهم ربما.. توجهت لغرفتها لتستقبلني رائحة عطورها التي تملأ الأجواء.. فتحت خزانتها وسحبت معطفاً صوفياً ومن بين ملابسها التي تحمل تواقيع أكبر مصممي العالم.. اخترقت ضحكتها البهية عيني وجلدتني فكرة موجعة
" ندى، في المعتقل الآن !! أيادي العسكر القذره تمتد لتسحبها، هل ستتحمل ندى هذه " البهدلة" !! هاجست نفسي.. كيف تتحمل من هي مثلها رائحة السجون وسفاهة الضباط وحقارة العسكر..وإذ بفكرة أكثر إيلاماً تتخطفني " ماذا سأقول للولوة وعالية عندما تستيقظان بعد ساعات ولا يجدان أمهما ؟"
يا ليتهم أعتقلوني أنا.. شنقوني أنا.. قطعوني أرباً ولم يقربوا شقيقتي..
أتراهم يوافقون على استبدالي بها !!
توقف عقلي عن الدوران، انخرطت في بكاء مرّ بين خزائنها أخبئ دمعتي بين كفي وأكتم صرختي التي تريد أن تخترق السقف وتهز الجدران.. أذن الفجر خلال تلك الدقائق..
الله أكبر.. الله أكبر
رفعت رأسي وسمعت صوتي وأنا أقول بتحدً " الله أكبر..على من طغى وتجبر"
نشر بتاريخ مارس 19, 2012
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق