(5)
قبل أن أعتلي منصة الدوار، الدوار الذي هدمته السلطة وحولته " لبارك" للمدرعات والجنود، جاءني احد المنظمين على استحياء:
( أستاذة عاااد لا تجيبين طاري الحوار – قال متلطفاً - أنت غالية عندنا ونخاف " يفلعونك" أمس "فالعين" واحد لهالسبب).. لم أطعه بالطبع ونصحت الجماهير عشيتها باقتناص فرصه الحوار دام أن السلطة مرتبكة ويّد الجناح المتعجرف في العائلة الحاكمة مغلولة – مؤقتا- ولم يوافقني أو " يفلعني" أحد ولا أدرى أاقتناع بطرحي أم خوف على مشاعري !
*******
لسبب ما لا يأتي ذكر مفردة الحوار إلا " وينط عرق" البعض.. لقد تحول " الحوار" لكلمة مشبوهة بسبب حزمة من الشعارات: " الحوار خيانة لدم الشهداء"، " لا حوار إلا في الدوار"، "لا حوار مع القتلة" ومثيلاتها من الشعارات التي تؤطر الرفض بلغة مشبعة بالتخوين كفيله بتخويف – وتهديد- كل من يجرؤ على الدفاع عن الحوار.. فلا أحد يُريد أن يُتهم بخيانة القضية أو بيع دم الشهداء..لاحظوا أن تلك الشعارات أرهبت حتى القيادات السياسية فما بالكم بالعوام.. الذين باتوا يخافون نطق الكلمة ناهيكم عن الدفاع عنها..
ولأني " بحرانية حربية" سأعقد معكم صفقة خاصة: سأقبل بتخوينكم واستهزائكم ورفضكم – مسموحين مقدما- شريطة ان تتمعنوا فيما سأسرد وأقول..
****
(6)
- شيخ المجاهدين عمر المختار الذي حارب الايطاليين وخاض معهم 263 معركة استجاب ودخل مفاوضات السلام في سيدي ارحومة مع بادوليو- الرجل الثاني بعد موسليني- ولما وجد شروط السلام مجحفة بحق شعبه رفضها.. فهل دخل المختار المفاوضات جهلاً أو ضعفاً أم لأنه يجهل أفعال المستعمر بشعبه ؟
لا..ولكنه أراد أن يثبت لخصومه، ويُثبت في التاريخ، أنه كان من طلاب الحق لا الثأر والدم..
-28 عاما قضاها نيلسون مانديلا في السجن حاور فيها سجانيه ومضطهديه..وعندما خرج بعد 10 آلاف يوم من عمره قضاها في زنزانة ، ورغم دموية صراعهم مع السلطة العنصرية، إلا أنه قاد رحله المصارحة والمصالحة بين الضحايا والقتلة ولم يعتبر خائنا لدم وتضحيات أحد،،
الحوار وتقديم الصلح على الصدام مبدأ الأقوياء والحكماء.. في الحروب كانت الجيوش تقطع آلاف الأميال راجلةً وتعسكر على تخوم الخصم متوثبةً للقتال ولكنها تمنح – دوماً- فرصة لمراسيل اللحظات الأخيرة لوقف الحرب وحقن الدماء.. لا تأتي المكاتيب والمراسيل بنتائج حقيقة في ساعات التشنج ، وقلةٌ هي الحروب التي عُلقت في اللحظات الأخيرة بسببها.. ولكنها التزام أدبي وأخلاقي عند المتحاربين يدل على النبل ويشير تجاوزه على العدائية والهمجية..
(7)
كان هذا في عصر الصراع بالسيف والمنجنيق والفيلة.. اليوم نعيش عصر الصراعات "الناعمة".. الصراعات التي شهدتها أوروبا مثلاً بين 1618 - 1648 م كلفت أوروبا ثلث سكانها وألمانيا تحديداً خسرت نصف سكانها في المجازر.. أما اليوم فقد تقلص عدد الضحايا من ملايين لآلاف وربما مئات رغم أن آليات الدمار صارت أقوى وأشرس ولماذا ؟ لأن الصراعات تبدأ بهزيمة سياسية وإعلامية تعقبها هزيمة عسكرية سائغة.. واستحضروا الصراعات العسكرية التي شهدتموها في القرن الماضي لتتحقوا مما نقول.
نافلة الفكرة : أن المفاوضات لطالما كانت جزءاً من أي صراع.. المناضلون حاوروا المستعمرين والسجانين.. والمعارضون يحاورون سلطات يرفضونها كما يحدث الآن في اليمن وموريتانيا وحتى في سوريا رغم وحشية القمع إلا أن أنباء تتوارد عن محاورات سرية في روسيا..
فالحوار ليس استسلاماً ولا بيع ولا شراء.. انه وسيلة حضارية لحل الخلافات والحد من الخسائر وهو – في حده الأدنى- وسيلة لشرح وجهات النظر وفهم الخصم وتقدير المواقف..
(8)
هناك أحاديث مسربة تفيد بحوار قريب برعاية أمريكية.. وقد نصب قياديين من تجمع الفاتح الموالي صيوان عزاء لما تناهى لمسامعهم انه سيستثنون منه.. كما وسنّ بعض المعارضين حرابهم تأهبا للطعن في من سيشارك فيه.. بالطبع قد تكون تلك الأقاويل بالونه اختبار وقد لا تكون وفي كل الأحوال يجب أن نكون مستعدين متأهبين:
لصراع قد يمتد لسنوات، أو لمبادرات توفر علينا عناء سنوات. لسنا مجبرين على القبول بشيء ولا الرضوخ لشيء، وليست هناك خسائر من أي مفاوضات. في مثال قريب: دخلت المعارضة في حزيران حوار الحكومة المزيف ممثله بـ5 أعضاء وسط 300 مشارك، كانوا يدركون عقم الحوار بهذا القالب وانسحبوا سريعا ولكنهم كسبوا بدخولهم نقطة.. وبانسحابهم أخرى.
(9)
شخصياً أشجع على أية مفاوضات وحل سياسي يقودنا للدولة العصرية التي نصبو لها. ومثلكم جميعا لا أقبل إلا بإعادة الاعتبار للضحايا ومحاكمة الجلادين وتغير جذري في بنية النظام يُعفي الأجيال القادمة مما قاسيناه. ختاماً أقول لمن يروج بأن الحوار خيانة للشهداء:
هل فاضت تلك الأرواح الطاهرة في سبيل غّد أفضل للوطن والأجيال القادمة أم سال نكاية في فلان وعلان؟ قضيتنا اكبر من شخوص.. أنها قضية كرامة وبناء دولة ولن يُفيدنا أن نغير كل وجوه النظام لو لم يتغير حالنا جذريا.. فالعنب لا رأس الناطور هو مبتغانا.. وتقويم الاعوجاج العام-لا تبديل الوجوه- يجب أن يكون هدفنا الأسمى.
ولحديث المصارحة هذا وقفة أخيره قادمة ،،
حرر في 23 فبراير 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق