الأحد، مارس 25

أقسى تجارب حياتي (3-4) مشاهد من الأيام الطويلة ،،





(1) 
لا أكاد أصدق.. أيعقل أن بعض أقربائي يخشون زيارة بيت عائلتي !!
أيعقل أن بعض أصدقائي يهاتفوني من أرقام غير مدرجة باسمهم !!
أيعقل أن أخي أنا ، شقيقي أنا ، يضغط علي للتراجع وبيع القضية !
 هل تصدقين أن أحد أفراد عائلتي توقف عن استخدام لقب عائلتنا !
حدثت زائرتي بغيظ "لا تلوميهم فالناس تخاف، الكل اليوم معرض للفصل والتنكيل والاعتقال، تخيلي أن ولد سكينة اعتقلوه " ماله شغل بشي مسكين" كان ذاهباً لشراء سندويشات لأطفاله وتفاجأ بحمله اعتقال أخذته وعشا أولاده في يده ، هل تعرفين أم فاضل: اعتقلوا أبنها المعاق وأخالها جُنت ، ثم أنك "مسجل خطر" أتصدقين ان لجان التحقيق حققت مع موظفين وسألتهم عن وجود مقالاتك في بريدهم الإلكتروني ! ثم أن.. "
" أنها غابة وليست دوله " قلت لزائرتي مقاطعةً وأنا أشيح بوجهي لأنهي الموضوع..
لم يكن هناك مكان للعتب أو للمبالاة.. التفكير في أي شيء سوى شقيقتي والحكومة التي كشرت أنيابها.. كان ترفاً
(2)
إبان حركة التسعينات "التي كانت تطالب بالبرلمان يومها" لم تكن السلطة تقل بغياً وعدواناً عنها اليوم ولم تكن المعاناة مختلفة بيد أن عاملان أحدثا كل الفرق : حينها ؛ لم يكن هناك فضاء انترنت مفتوح ينشر / يفضح انتهاكات حقوق الإنسان لذا فإن أهل المناطق "الهادئة" لم يكونوا على علم بتفاصيل ما يجري في مناطق  الصراع بدقه.
أما الفارق الثاني، الذي أحدث كل الفرق، فكان أن السلطة كانت آنذاك تستهدف بانتقامها وجلاوزتها الطبقة المطحونة وترفع يدها عن التكنوقراط والبرجوازيين – لا بهدف مجاملتهم كما يبدو- بل بهدف عزلهم.. لذا دفع ثمن حراك التسعينات الشباب والعاطلين والفقراء وقطف ثماره الأغنياء والمتعلمين - بل والموالين للسلطة - الذين استماتوا على كراسي البرلمان الذين رفضوا فكرته " بشراسة" في التسعينات- تماماً كما يفعلون اليوم مع فكرة الحكومة المنتخبة !
****
ثورة 14 فبراير، وبفضل انتقالها من القرى لقلب العاصمة ، وبفضل وسائل التواصل التي جعلت صور وتسجيلات وأخبار القمع والجرائم تنتشر ف لحظتها .. جمعت كل الطبقات والأطياف : المتعلمين وأنصاف المتعلمين.. الأثرياء والمعوزين والإسلاميين وغير المتدينين مع معضلة جانبية: أن بعض الطبقات التي لم يطلها أذى التسعينات ، ولم تذق علقم السلطة فيها ، كانت أقل " مراناً" في التعامل مع بطش السلطة وتعسفها.. أقل توقعاً واستعدادا لما يحصل..عائلتي ، وعائلات عدة مثلنا، لم يطأ أحد منهم السجن يوماً ولم يتعاطوا مع مرتزقة السلطة وعدوانيتها لذا كنا أشبه بمن رموه بالمحيط قبل إعطاءه – ولو درساً نظرياً- في السباحة !

(3)
بعد أسبوع من اعتقالها بدأنا نتلقى اتصالات من ندى فيما بدا كنتيجة لإلحاح زوجها المستمر على كل المتنفذين الذين يعرفهم.. كنا لا نبارح المنزل ولا نبتعد 3 خطوات عن الهاتف خشية ان تتصل..لم يكن لاتصالاتها توقيت ، قد تتصل في الرابعة عصرا أو الثالثة فجراً..
وتماماً كما كنا نشاهد في الأفلام، كانت تتكلم معنا لدقيقة تحت رقابة شخص ما وقد نسأل ما يعتبرونه سؤالاً خطاً فيسحبون منها الهاتف ويغلقونه في وجوهنا.. في مكالمتنا الأولى سألتها: هل أنت بخير حبيبتي؟ فأجابت: نعم.. أين أنتي الآن: فقالت لا أعلم.. سألناها هل وجهوا لك تهمة معينة.. فأغلقوا الخط !!
تعلمنا بعد مرات من جلد الذات أن لا نسأل أي سؤال قد يزعج السجّان .. ولأن المكالمات لم تكن تعدو دقيقتين الى ثلاث تعلمت أن أتكلم سريعاً جداً وأقول لها في بعجلة ما قد تود سماعه: أن بناتها بخير وأمي بخير وكلنا متماسكون وان العمل على قضيتها جارً وأن بناتها تقبلا سفرها للدراسة وكان تمرير هذه الرسائل لتهدئة قلقها مهمة صعبة، خصوصاً أن لساني كان ينطق بما يكذبه صوتي..
أحياناً كنا نأمن لها الحديث مع بناتها.. كان كلامهم معها يدمي القلب وخشيت أن تزيد عذاباتها فطلبت منهم أن لا يطلبوا منها العودة وأن يخبروها عن الهدايا التي يريدون منها إرسالها بالبريد.. عالية –الأصغر سناً والأكثر عفوية - ابتاعت مزاعمي وطلبت من أمها أفلاماً جديدة أما لولوة فسحبت الهاتف من شقيقتها وقالت بغضب: لا أريد شيئاً أبداً، اريدك أنت، عودي يا ماما.. لماذا تدرسين وتتركيننا ثم أجشت بالبكاء!
لا أعتقد أن العائلة الحاكمة تدرك ما تفعله عندما تعرض الأطفال في هذا السن لكل هذا الغضب.. وإن كانوا يعتقدون أنهم يواجهون وقتاً عسيراً اليوم فعليهم انتظار الأجيال القادمة..الأجيال التي تجرعت بطشهم باكراً وباكراً جداً..
*****
لاحقاً عرفنا أن ندى ستنقل من السجن إنفرادي الذي وضعوها فيه زهاء الأسبوعين لمعتقل جماعي في مدينة عيسى، وبعد ان كانوا يرفضون إعطائها حتى القرآن سمحوا لنا بأخذ حقيبه لها ومبلغ مالي لتشتري به نثرياتها ، أرسلت لها خفين جوتشي ومستحضرات هيرمس وبعض الملابس المريحة والراقية ، قست الأمر على النحو التالي " لو كنت مكانها كنت لأريد أشيائي الجميلة معي لتربطني بخيط رفيع بنفسي التي أعرفها " وتلك كانت.. غلطة فادحة !! فقد طمع الشرطة فيما رأوه من حاجيات وأخذوا جلها ولم يصلها إلا ملابس النوم ومشط وخفّ منزلي فقد سرقوا حتى الصابون المعطر الذي أرسلته !! وعرفنا أنها استلمت 20 ديناراً فقط من الـ 100 دينار التي أرسلها لها زوجها !! هؤلاء هم مرتزقة الأمن الذين يستعين بهم نظامنا الحاكم..
همج رعاع مرتزقة يجمعهم من كل بقاع الأرض ومن أدني النوعيات ليكونوا وحوش السلطة المتنمره علينا..
كنت أهرب من فكرة أن ندى تتعاطى مع هذه النوعيات الرديئة من البشر بالعمل على تقارير إرسالها - وبطريقه معقدة جداً- للمنظمات ووسائل الإعلام العالمية ، فبعد ان بدأت الحكومة في تقفي المرسلات الإلكترونية واختطاف المدونين تنامت ضغوط أخوتي علي الذين كانوا يفزعون لرؤيتي أكتب !
 1 من كل 20 موضوعاً كانوا يخرجون للنور ، لم انشر شيئاً باسمي وقتها حماية لشقيقتي ، فقد كانت الصفقة واضحة : سكوتي أو تعذيب وإدانة شقيقتي ..
****

(4)
بعد زهاء الشهر شبّ خلاف بيني وبين أمي : كانت تلح علي لأتوقف عن أخذ العقاقير المنومة التي بدأت أعتمد عليها كلياً .. كما وكانت تلح علي لأخرج من المنزل – أقلها – للمشاركة في تجمعنا العائلي يوم الجمعة ولكني كنت مصرةً على عدم مبارحة البيت.. كنت أتذرع بانتظاري لاتصال ندى ولكني في الحقيقة كنت أستكثر على نفسي أي نزهة.. وقاطعت الحلويات تماماً لكي لا أنعم بشيء حُرمت هي منه، لم أكن أعتقد أني أحب شقيقتي بهذا الشكل .. لم أكن أتخيل أن حياتي كلها لا تساوي دخلتها من الباب عائدةً لبناتها..
تحت ضغط والدتي خرجت مره لبيت والدي.. وتنفيذا لرغبه الصغيرات خرجت أخرى للحديقة المائية ومسجد الصادق وفي المرتين بدت الشوارع لي مقفرة ونقاط التنفتيش منفره وحتى وجوه الناس كانت مختلفة.. لقد تحولت البلاد لمقبرة أو لسجن كبير وكل هذا لتحافظ الحكومة الموقرة على امتيازاتها وسلطتها غير المشروعة !
****

(5)
أفرج عن د.جليلة العالي، وبعض النساء ما وفر لنا رؤية أفضل لواقع ندى في الداخل.. كانت قوية متماسكة الا من بعض لحظات اليأس.. فندى كانت أول سيدة أختطفها العسكر وأثبتت مستندات القضية أن أسمها كان الأول في قائمة المدعي العام العسكري - قبل د.العكري الذي أعتقل بيومين قبلها- وقد فُسر هذا بكونها شقيقتي "ما زاد من شقائي"، بالطبع اعتقلت أخريات لاحقاً وسمعنا أن ندى كانت منعزلة تماماً عن "الوافدات" الجدد للمعتقل تقضي يومها في قراءة القرآن ولكنها بدأت في الاختلاط بالآخرين بل ومواساتهم والاعتناء بهم لاحقاً..
تحول حزني لفخر شديد.. ندى التي كانت تسخر مني ومن ذوباني في فضاء هموم الآخرين صارت أنا.. بشكل ونكهة خاصين بها وحدها..
يتبع 

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

مقال رااااااائع
وتحليل موفق لسبب تضخم حجم الثوره مقارنه بثوره التسعينات

غير معرف يقول...

مبروك على المدونة الجديدة استاذة وإلى الأمام دائما
ما زلنا ننتظر التكملة لمقالك عن تاريخ البحرين.

شكرا لكم.. شكرا لكم